الظواهري "جُحا العصر"
أعظم الأضاحيك ما اختلط فيها الهَزْل بالجِدّ ...
الجدّ يكبت النفسَ ويغمّها فإذا جاء الهزل أطلقها ، هذا هو سرُّ الأضحوكة
أو ما يسمّيه الناس بالنُكتة ...
وأخطر الأضاحيك ما دنا من الدين فنال منه بنقص أو سخرية ، تلك حدود الله
فلا تقربوها .
قال الله تبارك وتعالى :
"وذَرِ الذين اتخذوا دينَهم لهواً ولعباً "
"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"
وأنزل سبحانه في المنافقين الذين نظموا الأضاحيك
ليسخروا من الإسلام :
"وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ
تَسْتَهْزِؤُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ"
بعض الملوك والخلفاء في القرون الإسلامية الأولى كان يعجبهم - كسائر الملوك - أن يلج عليهم بين الفَيْنة والأخرى من يُذهبَ عنهم المَلَل ، ويُدخل عليهم السرور والفكاهة فيطرد عنهم غَمَّ السلطة ونَكَدَ السياسة ، ومجالس الملوك في ذلك الزمان كانت مُحصنة بجدُر الكتمان ومُسوّرة بسرادق الرهبة والهيبة لا يجرؤ سفيهٌ أن يهمس فيها ببنت شَفَةٍ قبل أن يزن كلماتِه بميزان الحيطة والحذر من العاقبة .
ومما روى الإمام الطبري في تاريخ الأُمَم
والملوك [ج8/349] "أنّ رجلاً مُضحكاً يُدعى ابن أبي مريم المدني سُنحت له فرصة الولوج إلى قصر الخليفة العباسي
هارون الرشيد رضي الله عنه ، فأصبح مِضْحاكاً للرشيد، محداثاً فكيهاً، فكان الرشيد
لا يصبر عنه ولا يَمَلُّ محادثته، وكان ممن قد جَمَعَ إلى ذلك المعرفةَ بأخبار أهلِ
الحجاز وألقابِ الأشراف ومكايد المُجّان، فبلغ من خاصّته بالرشيد أن بَوّأه منزلاً
في قصره، وخلطه بحُرَمِهِ وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع
الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألْفاهُ نائماً، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قَالَ له: كيف أصبحتَ؟
قَالَ: يا هذا ما أصبحتُ بَعْدُ، اذهبْ إلى عَمَلِك .
قَالَ : وَيْلك ! قُمْ إلى الصلاة.
قَالَ : هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي فمضى وتركه نائماً
.
[ يعني هو على مذهب أبي حنيفة يسفر بصلاة الفجر ومذهب
أبي الجارود الصلاة في الغَلَس أول الوقت ] .
وتأهّب الرشيد
للصلاة، فجاء غلامُه فقال : أميرُ المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابَه،
ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: "وَما لِيَ
لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" .
فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله !
فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو
كالمغضب، فقال:
يا بن أبي مريم، في الصلاة أيضا !
قَال : يا هذا وما صنعتُ ؟
قَال : قطعتَ عليَّ صلاتي .
قَالَ : والله ما فعلتُ، إنما سمعتُ منك كلاماً غَمَّني
حين قلتَ: "وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" فقلتُ: لا أدري والله!
فعاد [ أي الرشيد ] فضحك، وقال: إيّاك والقرآن والدين،
ولك ما شئتَ بعدهما " .
انتهت الحكاية - والعُهدة - على الراوي ، وهذا
ما نوصي به أهلَ الفنّ والإبداع ، دَعُوا القرآنَ والدينَ وخوضوا فيما وراء ذلكم
بما شئتم ولا تسرفوا فإنّ كثرة الضحك تميتُ القلب .
ننتقل بعد هذه المقدّمة الموجزة إلى الظواهري "جُحا
العصر" النجم الكوميدي الكبير الذي طلّ علينا بأحدث النُكات بعد صمته الطويل فألقى على الناس :
أضحوكة الموسم ؟
نُكتة مشورة المجاهيل !