إدارة التوحش
قال لي صاحب حديثُ السنّ : ما رأيك بكتاب إدارة التوحش الصادر عن منظمة القاعدة ، وهل التوحش مرحلة من مراحل الجهاد الإسلامي ؟ وهل تجسّد حركة داعش تلك المرحلة التي تكلّم عنها الكاتب ؟
فأجبته متبسّماً : خُذها من الآخر ، التوحش في الحرب سنّة من سُنن الجاهلية ، وخصلة من خصال الكلاب المسعورة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لنا مَثَل السَّوْء " ...
فقال : مزيد من التفصيل يرحمك الله ؟
فقلت : يا ابن أخي ؛ الحرب إذا حميت نَزَعَت الرحمةَ من القلوب ، وإذا انتزعت الرحمة من قلوب البشر فسدت
عقولهم وساءت أخلاقهم كما فصّلته في مقال سابق ، فإن لم يكن لدى المجاهد المقاتل وازع من الشريعة السمحاء تجارى به هوى التوحّش حتى يصير مثَله كمَثل الكلب المسعور ، ولا أجد وصفاً لأولئك المتوحّشين أبلغ مما جاء في الأثر :
" إنه يخرج في أمتي
قومٌ يهوون هوىً يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يدع منه
عرقاً ولا مِفصلاً إلا دخله " .
قوله في الحديث : " الكَلَب " بتحريك اللام وفتحها وهو مرض السعار الذي يصيب الكلاب فينتقل بالعدوى إلى البشر ، وشرّاح الحديث يقولون : هذا الأثر جاء في الخوارج ، ولنا عودٌ لتفصيل ذلك إن شاء الله ...
يا ابن أخي ؛ إنّ من أشهر أيام العرب في
الجاهلية قبل الإسلام " حرب البسوس " وما أدراك ما حرب البسوس ؟
الحكاية باختصار أنّ امرأة من أشراف العرب يُقال لها البسوس كان لها ناقة
، [ وقيل : الناقة لجارها ] ، فمرّ عليها – أي على الناقة - كُليب بن ربيعة التغلبي وهو يسرح بإبله ...
ناقة البسوس تحرّكت غرائزها فاستهوت بني جنسها فتحرّرت من عقالها وتبعت إبل كُليب ، فرماها كُليب بسهم
ليبعدها عن إبله ، [ لعلّه أراد إخافتها ] لكن السهم اللعين أصاب ضرع الناقة فسال دمها واختلط باللبن ، فناحت البسوس وأنشدت في ذلك شعراً . فحمي الرجال فقتلوا كُليباً فثارت ثائرة الحرب بين قبائل بني بكر وأبناء عمومتهم من بني
تغلب ، واستمرت تلك الحرب اللعينة أربعين سنة ، اسودّت فيها السماء بظلمة الجاهلية
واحمرّت الأرض بدماء البغي والعدوان ، ونُظمت في تلك الحرب أشعار خلّدها المؤرخون منها قول
المُهلهَل بن ربيعة :
لما نعى الناعي كُليبا أظلمتْ
شمسُ النهار فما تريد طلوعاً
قتلوا كُليباً ثم قالوا ارتعوا
كذبوا لقد منعوا الجيادَ رتوعاً
كلا وأنصابٍ لنا عاديّة
معبودةٍ قد قُطّعت تقطيعاً
حتى أبيدَ قبيلةً وقبيلةً
وقبيلةً وقبيلتين جميعاً
وتذوقَ حَتفاً آلُ بكرٍ كلُّها
ونهُدّ منها سمْكَها المرفوعاً
حتى نرى أوصالَهم وجماجماً
منهم عليها الخامعات وقوعاً
ونرى سباع الطير تنقر أعيناً
وتجرّ أعضاءً لهم وضلوعاً
والمشرفية لا تعرّج عنهم
ضرباً يقدّ مغافراً ودروعاً
والخيل تقتحم الغبارَ عَوابساً
يومَ الكريهة ما يردن رجوعاً
المهلهل من فرط غضبه وكرهه لم يأت على ذكر الغنائم والسَّلَب كعادة العرب ، فكل ما تمنّاه هو أن يُبيد بني
عمومته قبيلةً قبيلة ، وأن يقطّع أوصالهم وجماجمهم ويتركهم في العراء حتى يرى الضباع تنهش أوصالهم ، ويرى
النسورَ تنقّر أعينهم وتجر أشلاءهم وأضلاعهم . وهو يطوّف بجثثهم يقدّ مغافرهم ودروعهم يثقبها للنسور ، والمشرفية نوع من أنواع السيوف الثاقبة .
هذا ابن أخي هو التوحّش .. وهذا ما كان عليه الناس قبل الإسلام .
وللحديث بقية