المنطوق والمفهوم ، من مداخل التجديد
نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لها معان يدلّ عليها النصّ .
فإنْ كان المعنى منطوقاً به ، ظاهراً باللفظ الصريح فهو المعنى المعلوم بدلالة
المنطوق .
وإن كان المعنى مسكوتاً عنه أي لم يرد باللفظ المنطوق به فهو المعنى
المستنبط بدلالة المفهوم .
وقد خاض الفقهاء قديماً في المفهوم من النص المنطوق ، وقسموه إلى قسمين :
مفهوم مخالفة وهو الأضعف في الدلالة على المعنى
المسكوت عنه .
ومفهوم الموافقة وهو نوعان :
- ما كان مساوياً للمعنى المنطوق به ، ويسمى " دليل الخطاب " وبعضهم يسميه " لحن
الخطاب " ونحو ذلك من المصطلحات .
- ما كان أولى بالحكم من المنطوق ويسمى فحوى الخطاب أو قياس الأولى .
جمهور فقهاء المسلمين اعتبروا القياس والعمل بدلالة المفهوم أصلاً من أصول
التشريع الإسلامي ، وخالفهم الظاهرية وكانوا أقل قليل المسلمين فقالوا : لا نأخذ إلا
بظاهر النص المنطوق فلا اعتبار عندهم لما سُكت عنه النص .
الخوض في المفهوم منذ زمن مبكر فتح آفاقاً جديدة لتطوير الشريعة الإسلامية ، فقد تكلّم
الفقهاء عن أحكام شرعية لم ينطق بها القرآن الكريم والسنة النبوية لكنها مستنبطة
من مفهوم المنطوق به .
فالقرآن الكريم تكلّم عن الإبل والبقر ، والضأن والمعز ، وكذلك تكلّم النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المعلومات لدى أصحابه ، ولم تكن العرب تعرف الجاموس حتى فُتحت مصر فعرفوا الجاموس واحتاجوا إلى تجديد
الأحكام المتعلقة بالأضحية .
وقد يسأل سائل فيقول : إن كانت الشريعة الإسلامية قابلة للتطوير والتحديث ،
صالحة لكل زمان ومكان ، فلماذا سكت الشارع الحكيم عن النطق بتلك الأحكام والله يعلم ما كان وما سيكون وهو القائل سبحانه : " وما كان ربّك نسيّاً " .
الجواب المفصّل يطول لأنّ هنالك مجموعة من الأسباب والحِكَم ، وسنذكر في
هذا المقال حكمةً واحدة من تلك الحِكم ، فمن أسباب ذلك السكوت أنّ النبي صلى الله
عليه وسلم بُعث في أمة أميّة ، متخلفة حضارياً ، فلم يكن بمقدور العربي في ذلك
الزمان أن يستوعب أو يتخيّل ما ستكون عليه الحضارة الإنسانية في المستقبل البعيد ،
ولم يكن بمقدوره استيعاب الأحكام والقوانين المعقدة الصالحة لتلك الأزمنة والأمكنة البعيدة والمعقّدة
فتُرك التجديد لأهل زمانه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن
الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها " .
ألا ترى كيف فُتن الناس بخبر الإسراء والمعراج حتى ارتد كثير ممن آمن
بالإسلام لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، أفيعقل أن
يملي رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاصيل الأحكام الشرعية لعصر الطائرات
والصواريخ ؟
وهذا لا يعني أن الشريعة
الإسلامية المتعلقة بالأحكام العملية في العهد النبوي لم تكن حكيمة ، لكننا نقول :
إنّ المشرع خاطب المُكلّف على قدر ما يمكن استيعابه في العالم المشهود لديه في ذلك
الزمان .
ونضرب لذلك مثلاً ميسّراً للفهم
:
أمر الله تعالى بالطهارة لإصلاح
الدين والدنيا ، وهو مقصد حكيم من مقاصد الشريعة الإسلامية لا يماري فيه عاقل سليم
الفطرة .
وفي سياق ذلك المقصد الحكيم وردت مجموعة من الأحكام والتشريعات ، منها ما رواه أبو داود والنسائي
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
" إنما أنا لكم مثل الوالد ، إذا ذهب أحدكم
إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول ، ولْيستنجِ بثلاثة
أحجار ونهى عن الروث والرمّة ، وأن يستنجي
الرجل بيمينه " .
وروي طاووس نحو هذا " الاستنجاء بثلاثة أحجار أو بثلاثة أعواد "،
قال السائل فإن لم أجد قال : " ثلاث حفنات من التراب " .
وروي عن يسار بن نمير قال : " كان عمر رضي الله عنه إذا بال ، قال
ناولني شيئاً أستنجي به فأناوله العود والحجر ، أو يأتي حائطاً يتمسّح به أو يمسّه
الأرض ولم يكن يغسله " .
وسئل حذيفة بن اليمان عن الاستنجاء فقال : " إذن لايزال في يدي نتن
" ، وعن نافع أن ابن عمر كان لا
يستنجي بالماء ، وعن ابن الزبير قال : " ما كنا نفعله " ، ونقل ابن
التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء ، وعن ابن
حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم . وخالفهم في ذلك البخاري
فأورد في صحيحه باباً بعنوان الاستنجاء بالماء ، إلى غير ذلك من الخلافات المعروفة
في كتب الفقه الإسلامي .
تلك النصوص والأحكام الشرعية ونحوها قد تثير الضحك ، إذ فيها من
الغرابة ما لا يخفى على عاقل، فلا يقال هنا : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً " إذ لا نقصد بالغربة غربة الإسلام بل غربة ما كان عليه الناس من التخلف والبداءة .
فإنْ أخذنا بالاعتبار مقاصد الشريعة وفضيلة التجديد والتحديث ، وأخذنا بالاعتبار حال الناس في ذلك الزمان الغابر ، وقلة المياه في جزيرة العرب ، والخشية من تلويث المنابع النادرة فإنّ العاقل يعلم أنّ تلك الأحكام كانت حكيمة في ذلك الزمان قبل أن يطوّر الإنسان وسائل نقل المياه ووسائل التطهير والتنظيف .
فالجمود على ظاهر المنطوق من بعض النصوص
القرآنية أو النبوية قد يفقد الشريعة الإسلامية جوهرها ومقصدها ، وصاحب الفطرة
السليمة العارف بمقصد الشريعة الإسلامية يعلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أدرك زماننا ورأى وسائلنا ومبتكراتنا الحديثة لأصدر
أحكاماً تختلف عن الأحكام التي أصدرها لرعاة الغنم والإبل في صحراء العرب ، وليس
في ذلك انتقاص لأحكام الشريعة أو المقام النبوي صلى الله عليه وسلم .